عادةً، يكون للأدوات والديكورات المستخدمة في العروض الفنية، قيمةً تخرج عن وظيفتها الشكلية في ملء الفراغ البصري، لتكوين معانٍ تخدم المحتوى الفني وتكمّله على نحوٍ يلائم نوع العرض وأدائه وغايته. فصياغة الدلالات المكانية في مختلف الأشكال الفنية، ما هو إلا توجيه للذاكرة، لملامسة الرموز والإشارات التي تمنحها هذه الأدوات بعد تحررها من ماديتها. لكن، في العروض التي يشارك بها “سكملى – ستوري”، وهو مشروع أطلقته اللبنانية الشابة آلاء حمادة قبل أربع سنوات، سنجد قراءةً فريدةً ومختلفة، ذات مضامين قصصية تخرج عن المألوف في عملية تأليف اللغة البصرية المعتادة.
في حديث خاص لـ “العربي الجديد”، تشرح حمادة طريقة عمل “سكملى” والغايات التي تمثلها. وسكملى، بحسب تعريف حمادة، “هي كلمة أصلها تركي، جرى تداولها في لبنان وفلسطين والعراق، وتعني اصطلاحاً، مقعداً خشبياً”. يعتمد المشروع، أولًا، على جمع قطعٍ أو مقتنياتٍ تعود إلى أشخاص يقعون ضمن دائرة معارف حمادة، من الأقارب والأصدقاء من مختلف المناطق اللبنانية.
هذه المقتنيات قد يكون بعضها مهترئاً، وفي حالة سيئة، فتلجأ حمادة إلى ترميمها وإصلاحها مع الحفاظ على شكلها الأصلي. غير أن هذه المقتنيات، في الدرجة الأولى، تحمل حكايةً أو قضيةً تمسّ مالكها قبل أن تصبح جاهزة للعرض. ونعني بالعرض، هنا، الإطار الحسّي لغرض التغلب على المادية الموصوفة ومنحها طابعاً معنوياً.
لا تنكر حمادة تطويع عملها بعيداً عن سكملى في حالات قليلة بحسب ظرف العرض وشروط العمل التنسيقية لا أكثر. أي على مستوى الديكور والتصميم والأكسسوارات وجميع العناصر، التي تدخل في التشكيلات السينوغرافية للنص أو العرض، وهي مساحة غالباً تتحكم بها رؤية المخرج. لذا، يقتصر دور حمادة، بصرياً، بحكم تجاربها وخبراتها، على تحرير ما وراء النص والقصة بشكل يناسب متطلبات العمل.
بذلك، يكون مشروع سكملى سارياً من دون الانخراط في الأعمال التجارية، ومعبراً لها في آنٍ واحد. بعض الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي شاركت فيها حمادة، كمصممة ديكور مسرحي وكمساعدة فنية للمخرج، فيلم “هيلين” للمخرج اللبناني حسن ضاهر، عملت خلاله مساعدةَ مخرج فني، وفيلم “تفل” للمخرجة روان رمضان، الذي شارك في عدد من المهرجانات المحلية والدولية كمهرجان “الأفلام اللبنانية المستقلة”، ومهرجان “القدس السينمائي الدولي”، وفيلم “مارتير” للمخرج مازن خالد، وهو أول عمل انطلقت منه حمادة، الذي بدوره شارك في العديد من المهرجانات، مثل مهرجان “بانغلور كوير” الهندي، ومسلسل “دفعة بيروت” و”خيبة أمل” و”بالقلب” و”أنا” (إنتاج الصبّاح) الجاري تصويره حالياً في لبنان.
فضلاً عن مشاركاتها العديدة في مجال الإعلانات التلفزيونية، وبعض المحاولات في صناعة الأفلام الوثائقية، مثل فيلم “الحياة حلوة” الذي يسلط الضوء على حياة رجل لبناني خمسيني لا يملك بطاقة هوية، يدعى فهد بيروتي، ويعمل خطاطاً لإعالة نفسه. اللافت أن سكملى وجهت أنظار القيّمين على مسلسل “دفعة بيروت” إلى موهبة فهد في الكتابة والخط العربي، فاستعانت به ضمن كادرها.
الأشياء أو المقتنيات التي تملكها “سكملى”، رغم تنوعها بين مصابيح ولوحات وأرائك وكراسيّ، تتجاوز شكلها الوظيفي، لتمنح أبعاداً دلالية إنسانية وأخرى اجتماعية. فهي ترى أن كل قطعة “تحكي قصة صاحبها، فقيمة هذه المقتنيات تنبع من قيمة القصص التي تحتوي عليها”. يتمحور شغف حمادة حول نبش القصص من بين ثنايا تلك المقتنيات، كما لو أنها تسعى إلى تحريض الذاكرة وانتشالها من مخبأها وإحيائها للخروج من خانة التوظيف البصري، والوصول إلى مشهدية مركبة تخلق تعاوناً حسياً نوستلجياً بين الذاكرة وعدسة الكاميرا، وصولاً إلى الطموح الأعلى في “تطوير الإنتاج الفني والثقافي”، بحسب رؤية حمادة.
إحدى تلك القصص التي تخبرنا عنها حمادة، قصة شاب سوري يدعى جميل محمد، يعمل بواباً لمصعد آلي، مؤقتاً، في أحد الأبنية التي يعاد ترميمها. يعتمد عمل الشاب، ضمن ساعات دوام طويلة، على استقبال الموظفين والمهندسين وحفظ سلامتهم من مخاطر أعمال البناء. ولأن عمله يتطلب الوقوف طويلاً في أثناء الدوام، سعت الشركة المختصة بأعمال البناء إلى صنع كرسي خاص له يخفف عنه أعباء العمل الشاق، الذي أصاب ساقيه بمرض الفاريز.
وبعد انتهاء عمليات البناء، منح جميل محمد هذا الكرسي إلى سكملى لتسطّر له قصة لطيفة تضاف إلى باقي القصص الأخرى في هذا المشروع. اللافت أن حمادة تدعو دائماً أصحاب المقتنيات للحضور إلى بعض معارضها أو مشاركاتها لمشاهدة أغراضهم كيف تحولت من قطعٍ مهملة أو منسية، إلى أدوات فاعلة لها بصمة بصرية مميزة.
من هذه الفعاليات، حفل موسيقي للمغنية الفلسطينية أمل كعوش بعنوان “قررنا الآتي”، أقيم العام الماضي في دار “زيكو هاوس” في بيروت. وقد شهد هذا المكان فعاليات وأنشطة أخرى شاركت فيها “سكملى”، مثل معرض “سلم” الذي تناولت فيه حمادة موضوعات نهضوية تسعى من خلالها إلى “بناء مجتمع من أصغر التفاصيل” على حد تعبيرها.
كذلك تتيح سكملى، عبر مقهى “أم ميرنا” الثقافي، مساحة خاصة لكل من لديه حكاية أو قصة يرويها، وكذلك للمشتغلين في المجال الفني بمختلف أشكاله: شعر، وموسيقى، وسينما، وحرف يدوية، وفنون تشكيلية، وذلك لخلق حالة فنية عابرة للثقافات.
إن أي عرض فني تشارك فيه سكملى، سواء كان موسيقياً أو تلفزيونياً أو سينمائياً، ما هو إلا انعكاس وجداني في المقام الأول نشأ في نفس حمادة منذ بداياتها، أيام المرحلة الجامعية، حين كانت طالبة في قسم الإعلانات في جامعة LIU اللبنانية.
حينها، كان مشروعها نابعاً من قضايا إنسانية وأخرى مجتمعية يتحفظ عليها كل مواطن لبناني في بلد أنهكته الأزمات. هنا، يأتي دور حمادة في نبش هذه القصص وغيرها من حكايات مهمشة أو منسيّة، تعلو المنحى الشخصي، لتطاول الشأن العام اللبناني في بعض تفاصيله غير المنوطة برعاية قانونية ملهمة أو محقة، فيأتي دور سكملى للإضاءة على مثل هذه القضايا. مثلاً، تطرقت في مشروعها إلى قانون الإيجارات اللبناني، إذ تخشى حمادة إقرار هذا القانون من قبل السلطة، لما له من تداعيات قد تؤدي، بحسب رأيها، إلى “تغيير ثقافي وتوزيع مناطقي يمهد لتطورات وتعقيدات ديموغرافية النسيج اللبناني بغنىً عنها”.
وكذلك قضية “ملّاحات إنفه”، وهي قضية تعنى بالشأن الاقتصادي الوطني؛ إذ تنادي حمادة بإعادة تشغيل هذه الملّاحات أو ما بقي منها، واخراجها من دائرة الاقتصاد الريعي، في محاولةٍ لحماية ما بقي من موارد لإعادة بناء اقتصاد متين يعتمد على الإنتاج، بدلاً من اللجوء إلى الاستيراد وتحويل المساحات المستثمرة لإنتاج الملح في الشمال اللبناني إلى مناطق ومنتجعات سياحية.